السبت 20 ابريل 2024
الرئيسية - كتابات - لماذا يكرهون التجربة التركية ويخشونها
لماذا يكرهون التجربة التركية ويخشونها
جمال سلطان
الساعة 10:32 مساءً
تمثل تركيا في صيغتها الجديدة ـ مع حزب العدالة والتنمية ـ النموذج الأكثر قربا من “حلم” المزاوجة المأمولة بين الإسلام والحداثة ، بين الدين والديمقراطية ، وهي الثنائية التي طالما قطعت بحثا وسال فيها مداد “تنظيري” كبير في العالم العربي والغربي على حد سواء ، وبما أن عالم الواقع دائما يختلف عن عالم المثال ، فنحن هنا نتحدث عن “الواقع” وحدود “الممكن” ، أي أن هذه التجربة بإيجابياتها وسلبياتها وصوابيتها وأخطائها تمثل “الأقرب” لتلك المزاوجة ، وبدون شك تعيش تركيا حاليا في منظومة من الحريات العامة والمؤسسات والفصل بين السلطات ومدنية الدولة هي الأفضل بالمقارنة بالمنطقة وهي تماثل ـ ديمقراطيا ـ معظم دول الاتحاد الأوربي ، ونجحت بذكاء وصبر ونفس طويل في إعادة هيكلة دور المؤسسة العسكرية في دولة مدنية ، لتؤدي دورها المنوط بها في حماية حدود الوطن وأمنه القومي دون الاشتباك مع السياسة الداخلية وإدارة الدولة ، بعد أن كان الجيش التركي يهيمن على القرار السياسي لعقود طويلة وأزال حكومات وأسقط رؤساء وأعدم آخرين ، يجري ذلك رغم تعرض تركيا لحرب مفتوحة من حزب العمال الكردستاني الانفصالي المدعوم من دول إقليمية عديدة ، وتعرضها لموجة من العنف الإرهابي المروع ، فضلا عن حدودها المفتوحة على الحريق السوري الهائل على مدار خمس سنوات واحتضانها ملايين السوريين ، تقدم لهم الرعاية من سكن وتغذية وصحة وتعليم . التجربة التركية الجديدة نجحت بهذا التزاوج ، ليس فقط في أن تحقق منظومة ديمقراطية مميزة إلى حد كبير ، بل أيضا نجحت في تحقيق طفرات تنموية هائلة خلال سنوات قليلة جعلت الاقتصاد التركي يتفوق على أكثر من نصف اقتصاديات الاتحاد الأوربي نفسه ، وهو ما انعكس على وجه الحياة في تركيا والبنية الأساسية من طرق وخدمات مختلفة ورفاه اجتماعي ومتوسط دخل المواطن ، فلا تخطئ عين الزائر أنه يتحرك في دولة من العالم الأول ، وتركيا الفقيرة في المواد الخام ومصادر الطاقة نجحت في تنويع مصادر دخلها ، صناعيا وزراعيا وسياحيا وعلميا ، وقدرات تصديرية عالية ، كما نجحت في أن تتحول إلى محطة إقليمية كبرى لنقل الغاز والنفط من آسيا إلى أوربا . التجربة التركية ـ لهذه الأسباب كلها ـ مهمة وملهمة للشرق الأوسط والعالم الإسلامي بشكل خاص ، بغض النظر عن الخصومات السياسية الحالية مع الرئيس أردوغان أو حكومته ، فتلك عوارض لم تكن موجودة قبل الربيع العربي وستزول حتما بعد زوال أسبابها المؤقتة ، فالتجربة التركية تقدم “تأسيسا” جديدا للسياسة في العالم الإسلامي ، يستنبت الديمقراطية في أرض الدين بدون تكلف وبدون صدامات دموية وبدون مخاصمة للمستقبل ولا قطيعة مع الماضي ، وهو تأسيس يمكن البناء عليه وتطويره وتحسين شروطه ، وتلك التجربة ـ لهذه الأسباب ـ تواجه كراهية وحساسية عالية من الجانبين ، الأوربي والشرقي على حد سواء ، بالنسبة لأوربا أصبحت تركيا تحديا كبيرا ، لأن العالم الإسلامي ظل طوال العصر الحديث مجرد فضاء تابع وضعيف يوظف كسوق لتصريف منتجات وإنجازات الغرب أو مصدرا للطاقة والمواد الخام ومحاولة تسويق قيم وأفكار محددة ، تركيا مثلت تحديا لهذا “الخيال” الأوربي عن الشرق الذي لا يريدونه خارج إطار فولكلور ألف ليلة وليلة في أحسن الأحوال ، ولذلك ينتقد أردوغان في الصحافة الأوربية بمرارة أشد من أي حاكم عربي أو إسلامي آخر . وبالنسبة لكثير من نظم العالم الثالث فيمثل النموذج التركي إزعاجا لنجاحه في تحقيق التنمية من خلال نموذج مدني وديمقراطي وغير مخاصم للدين في نفس الوقت ، وفكرة “العدوى” تمثل هاجسا عند البعض ، كما أن “المقارنة” تمثل تحديا خطيرا خاصة بالنسبة للنظم ذات الطابع العسكري أو الاستبدادي الصريح ، إضافة إلى أن نجاح التجربة يمثل إرباك وهزيمة لتيارات التشدد والإرهاب من جماعات وتنظيمات دينية وهي حريصة على إفشاله. تتعرض تركيا لضغوط هائلة في السنوات الأخيرة ، الإرهاب يضرب بهستيريا وإلحاح في العاصمة أنقرة والمدينة التاريخية اسطنبول ، لتركيعها اقتصاديا ، وإرهاب حزب العمال الكردي يستنزف طاقات وقدرات كثيرة ، والنار السورية تهددها في محيط ديني وطائفي وعرقي متداخل وخطير للغاية ودولة عميقة ما زالت تملك أدوات الإرباك وإن كانت قد ضعفت عن ذي قبل ، ومع ذلك تدير الدولة التركية قراراتها الكبرى وسياساتها باتزان مبهر ، بعيدا عن العنتريات التي يهواها بعض العرب ، القوميين والإسلاميين معا ، ونجت بنفسها من “الفخ” الأمريكي لإشعال الصراع بينها وبين روسيا ، الشريكة الاقتصادية الكبيرة ، وتستقبل كل عدة أشهر اجتماعات “قادة العالم” ، في مؤتمرات اقتصادية أو سياسية أو عسكرية ، وتحافظ على شراكتها ـ كقوة مستقلة وذات سيادة ـ مع حلف الأطلنطي ، ووافقت على إعادة سفيرها وعلاقاتها مع “إسرائيل” وفق شروط كسرت بها حصارا أريد فرضه عليها دوليا ، وانتزعت بالمقابل حقوقها معيشية للشعب الفلسطيني ، خاصة وأن العلاقات بين الجانبين تم بناؤها وتصميمها منذ نصف قرن والحكومة الحالية ورثتها فقط ، وحافظت تركيا دائما على اتزانها ومكانتها عند شعوب المنطقة وكان ملاحظا بعد الهجمات الإرهابية المتلاحقة أنها لم تتعرض للاجئين في أراضيها بأي سوء أو إجراءات استثنائية بل أكدت على أنهم ضيوف الدولة ولن تتراجع عن رعايتهم ، وهذا الموقف يمكن مقارنته بدول أخرى في المحيط السوري نكلت باللاجئين وحاصرتهم وطردتهم بعد كل حادثة إرهابية واتهمتهم بأنهم سبب البلاء والإرهاب ، باختصار ، عقلانية سياسية واعية وغير مندفعة ، جعلت تركيا ـ رغم المخاطر الكبرى ـ تمسك بمفاتيح المستقبل وآفاقه ، سياسيا واقتصاديا وإنسانيا .

لمتابعة أخبار "بوابتي" أول باول إشترك عبر قناة بوابتي تليجرام اضغط ( هنــــا )


آخر الأخبار