الخميس 28 مارس 2024
الرئيسية - ثقافة وفن - ونّوس.. العلاقة المتشابكة بين الإنسان والشيطان
ونّوس.. العلاقة المتشابكة بين الإنسان والشيطان
الساعة 05:15 مساءً (صُحف)

تعتبر مسرحية فاوست من عيون الأدب الألماني، وهي من تأليف الشاعر الألماني غوته، وترجمت إلى العديد من اللغات، وبالطبع هي غنية عن التعريف وكاتبها كذلك، لكن ربما لم يكن يعلم صاحبها أن شخصية البطل فاوست ستصبح فيما بعد أيقونة عالمية، واسمًا رنّانا سيكون أرضًا خصبة للعديد من الإسقاطات الدلالية، ورمزًا يتكرر حضوره في الأعمال الأدبية لغاياتٍ مختلفة تشير إلى معانٍ عدّة يرغب الأديب في إيصالها.

 



فاوست، بشكلٍ مختصر، هو رجلٌ كان قد أبرم عقدًا مع الشيطان، وينص العقد على أن يبيع فاوست روحه مقابل أن يعطيه الشيطان المعرفة المطلقة وكل المتع والملذات، لكن حصول الشيطان على الروح وامتلاكها مشروط بوصول فاوست إلى اللذة والسعادة الحقيقية والمطلقة!

تناولت المسرحية العديد من القضايا والموضوعات الشائكة، إلا أن الجزء الذي كان أكثر حضورًا في الأعمال الأدبية والسينمائية هو ذلك المتعلق بالعقد المبرم بين الإنسان والشيطان، وطبيعة العلاقة التي جمعت كلا منهما، وهي علاقة تبدو شاذة للقارئ إذ سيجدها متعارضة تماما مع القيم والموروثات الدينية، فجميعنا نعلم بأن صورة الشيطان في فلسفة الديانات جميعها هي صورة الشر، والعلاقة التي تربطه بالإنسان هي علاقة العداوة المطلقة والأزلية، ودائما ما يُصوّر لنا، منذ كنا صغارًا، بأنه ماكر ومخادع وذو وجهٍ مخيف وبشع، كما يعزى إليه السبب في كوننا سيئين أحيانا بسبب وساوسه وإغواءاته المستمرة، لذا لن يخفي القارئ تعجّبه من ذاك الذي يضع يده في يد عدو البشرية الأول، ويصدّقه بل ويبيعه روحه كذلك مقابل متعةٍ زائلة!

بالرجوع إلى الأعمال الأدبية والتلفزيونية التي تناولت جانب العلاقة التي جمعت الشيطان بالإنسان في مسرحية جوته، فقد لفت انتباهي المسلسل المصريّ "ونّوس" من تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج شادي الفخراني، بطولة يحيى الفخراني، وقد تميّز العمل بإشاراته الفريدة لتلك العلاقة الشائكة التي جمعت الشيطان بالإنسان، مستغلّا حكاية فاوست بالتركيز على جزئية العقد المبرم بينهما.

استطاع العمل جذب المشاهد على مدار ثلاثين حلقة في الموسم الرمضاني 2016 واضعًا إياه في حالة من الترقب، حيث كان العمل مشوّقا إلى درجة كبيرة، ولا شك أن وجود يحيى الفخراني في العمل يجعلك في حالة اطمئنان وعلى ثقة بأن اختيارك سيكون موفقا ولن تندم على المشاهدة.

تدور الأحداث حول أسرة "ياقوت"، الذي أبرم كذلك عقدًا فاوستيا مع الشيطان، فهجر أسرته التي لا معيل لها سواه ليجري خلف نزواته وشهواته الدنيوية، مخلّفا وراءه زوجته وطفلا رضيعًا وابنين وابنة دون أن يرفّ له جفن، إلا أن ضمير ياقوت يستيقظ في منتصف رحلته الشيطانية ويتراجع عن الاتفاق بعد عشرين عامًا رافضًا بيع روحه، بل ويتوب إلى الله كذلك ويطلب منه المغفرة والمسامحة، مما أثار غضب الشيطان، وأصرّ على ليّ ذراع ياقوت ليهبه روحه، فقرر الانتقام عن طريق الإيقاع بأولاده في حبائل مكره وخداعه واحدًا تلو الآخر، جاعلًا منهم أشخاصًا سيئين ينحدرون إلى قاعِ الهلاك أمام أعين والدهم، فإن استمر ياقوت في عناده سيكون سقوطهم في درك الهلاك، وإن أوفى بوعده للشيطان كانت نجاتهم!


في مسرحية جوته، كان الشيطان قد مثّل العديد من الأدوار والرموز المختلفة، وظهر في عملٍ مليء بالحكايا والخفايا تلفّه الصراعات النفسية والحوارات الفلسفية، فتجلّى عمق الفكرة ومضمونها، بينما لم يقدم عبدالرحيم كمال سوى صورة الشيطان التي تعكسها رؤية الديانة الإسلامية، وظلّ ملتزما بنمط الشخصية الشيطانية دون وجود تطوّر لها، ودون محاولة لقلبِ وجهات النظر تجاهها.

 

مما يؤخذ عليه جعل الشخصيات منقادة تماما دون أدنى مقاومة منها لإغواءات الشيطان، وهو ما يختلف عن طبيعة الشيطان الذي يُصور دائما بقوى خارقة وحيَل تتسم بالخبث والدهاء، إلا أن ونوس لم يفعل ما هو أكثر من مجرّد العزف على الأوتار الحساسة للشخصيات، فهي منذ البدء شخصيات ضعيفة التكوين، وتملك في داخلها استعدادا كاملا للانحراف، فمثلا "فاروق" وهو الابن الأكبر لياقوت محب للظهور بطبيعته، و"عزيز" يحب المال حبّا جمّا، أما "نبيل" يملك صوتًا جميلًا ويحلم أن يصبح فنّانا، ودنيا معجبة بنبيل رغم أنها مخطوبة لعزيز، وإعجابها به قائم قبل أن يدخل ونوس حياتهم ويدغدغ رغباتهم الداخلية، لذا لم نجد أي صراع أو مقاومة من الطرف الآخر، بل كانوا منقادين تماما، حتى ياقوت لم يكن يقاوم بما فيه الكفاية، بل كان يهرب باستمرار، وهذا يشير إلى شيطان الحكاية لم يكن ذا حضور قويّ، وهذا ما يجعلنا نطرح سؤالا مهما حول ما إذا كان الشيطان يقوم فعلًا بصنع الشر في داخل النفس البشرية، أم أنه يقوم بإخراج شرّ دفين وتحريكه فقط؟!

ومما أضعف العمل أيضا هو فكرته القائمة على الصراع بين الإنسان والشيطان وهو ما يعتبر حكاية تقليدية.

 

إضافة إلى أن العمل كان قد أكد على السلطة الأبوية المطلقة، فمنذ اللحظة التي عرف فيها الأبناء بوجود والدهم على قيد الحياة ويملك المال الكثير، هرعوا ليبحثوا عنه، وصارت فكرة العثور عليه هي شغلهم الشاغل، فقد كانوا يرون أن في يديه تغيير مصيرهم، وهو ما كان واضحا في السيناريو وبداية العمل ونهايته، كما أن الأعمال التي ظهرت بصفتها أعمالا شريرة لم تكن تتجاوز تناول كأس من الخمر، ورشوة ولعب قمار، وهو ما أعتبره استعراضًا بريئًا للشر، صحيح أنه يمكن للانحرافات الصغيرة أن تؤدي إلى ما هو أكثر من ذلك، إلا أنني انتظرت أن يظهر الشر بصورته الحقيقية المخيفة، ذلك الشر الذي يحيط بالعالم من شتى جوانبه، فيؤذي الآخرين قبل أن يؤذي صاحبه، كالقتل والتدمير، والفساد والإفساد، وهدم القيم والأخلاق النبيلة، والعديد من الكوارث الأخلاقية التي تعاني منها المجتمعات.

إلا أن عبدالرحيم نجح في رسم لوحة حوارية فلسفية تنساب إلى ذهن المشاهد دون تعقيد، كما أن اختيار يحيى الفخراني هو أكثر ما ميز العمل، فقد كان الشيطان المحبوب، سواء لدى المشاهد أو في الحكاية، كما لفت عبدالرحيم كامل في حكايته نظر المشاهد إلى مدى حب الله للإنسان، وإقرار الشيطان بذلك وغيرته من بني البشر، وظهر ذلك في المشهد الأخير حين قبض الله روح ياقوت وخلصه من بين يدي شيطانه، في إشارة إلى مسامحة الله له وغفرانه ذنوبه على الرغم من كل ما فعله، وهو ما أثار جنون ونوس وجعله يصرخ في وجه السماء متسائلا عن تفضيل الله للإنسان عليه، ولماذا يغفر الله للإنسان ذنوبه الكبيرة والصغيرة والتي تتكرر دائمًا، والتي قد تُغفر حتى دون أن يطلب الإنسان المغفرة، بينما قام هو أي الشيطان بذنب واحد فطُرد من الرحمة للأبد..


آخر الأخبار