[caption id="" align="alignright" width="225"]

اليمن بعيون شتى[/caption]
بقلم / سنابل المحسيري
أحب أن أرى المدن بعيون الناس، فعيناي لا تكفيان.
حين يصف الناس المدن يتكلمون برويّة واقتضاب، كثيرًا ما يعاجلهم الحنين وقت الكلام، فتتداخل الصور في مخيلاتهم ولا يقولون سوى القليل، بعضهم يذكر المباني والأسواق، والبعض يتحدث عن السكان والعلاقات، غيرهم يصفون البيئة والمناظر الطبيعية، ومنهم من يطغى اهتمامه بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية على أن يهتم بتكوين صورة جمالية للمدينة التي يزورها.
انتظر دومًا أن يتحدث أحد ما عمّا أحبه أنا في مدينتي، وجوه الناس، روائح الأسواق والدكاكين القديمة، وكل التفاصيل الجميلة المهملة. التقيت بناشط حقوقي بريطاني في العام الماضي، كان قد تطوع لتعليم اللغة الإنجليزية لطلاب المدارس في اليمن لمدة تزيد عن عامين، حدثني عن سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، وعن مدى تردّي وضع التعليم، فهناك نقص في القدرة المؤسسية اللازمة لتقديم تعليم ذا كفاءة، وعدم كفاية في التمويل، وعمالة الأطفال، وعدم توفر شبكة مواصلات، ونقص الخدمات العامة التي من شأنها تسهيل حياة الناس، إضافة إلى انتشار التعليم الديني بشكل أوسع نتيجة ضغوطات حزبية.
وحدثني أيضًا عن جمال اليمن، البلد الذي يطل على بحر العرب من جنوبه، والبحر الأحمر من غربه، وتتبع له أكثر من مئتي جزيرة، وعن صنعاء القديمة، المدينة المأهولة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وعن السكان المحليين، بساطتهم وسماحتهم، وعن الخطر المحيط بهم، فحوالي نصف سكان اليمن لا يحصلون على الغذاء الكافي والمياه النظيفة، وذلك جرّاء الجهل وضعف الاقتصاد والصراعات القائمة هناك، فحمّلني ضعف ما يحمل من تخوّف إزاء مستقبل هذا البلد، وأنبئني القلق الذي تفلّت من كلماته ونظرات عينيه بأن ما ستشهده اليمن سيكون فصلًا مأساويًا آخرًا نضيفه إلى كتاب مآسينا الحديث. أدركت بعدها حجم المسافة بيني وبين اليمن، الذي لم أعرف عنه من قبل إلا بعض الملامح المميزة في تقاليد اللباس، واللهجة، والموسيقى الشعبية، وأنه يكنى باليمن السعيد.
كان قد زوّدني أيضًا بمجموعة من الأفلام الهامّة والتي حصلت معظمها على إجماع بأنها من أفضل الأفلام التي تستحق المشاهدة، فهو يعتقد أن للأفلام دور كبير في توعية الناس على مختلف فئاتهم بالقضايا الهامة التي ربما لا يتعرضون لها بحكم العزوف عن القراءة، من بينها الفيلم اليمني (يوم جديد في صنعاء القديمة) من تأليف وإخراج بدر بن حرسي، والذي حاز على جوائز عدّة، منها جائزة مهرجان القاهرة السينمائي كأفضل فيلم عربي.
الفيلم بسيط كونه أول فيلم يمني طويل، فهو يمثل تجربة متواضعة من حيث التأليف والإخراج، ويلحظ المشاهد ضعف التقنيات وقلة تمرّس الممثلين على الأداء بحكم الظروف المحيطة بإنتاج هذا العمل، ومنها أنه كان هناك في اليمن 49 دار سينما اختفت من بداية تسعينات القرن الماضي.
بينما كنت أشاهد الفيلم كنت أبحث عن ألوان الزي التقليدي للمرأة اليمنية التي لفتتني بشدّة عندما شاهدت غلاف رواية (حرمة) للكاتب اليمني علي المقرّي. جمال صورة المرأة اليمنية بزيّها التقليدي الأصيل بديع الجمال لم يحوّل انتباهي عن اسم الرواية المكتوب بالأحمر القاني، «حرمة» لن أبالغ في ذمي لهذه الكلمة ولن أسهب في حديثي عنها، أكتفي بأن أقول أن الظلال السلبية للكلمة ليست خفية على أذن السامع، وأنه أول ما يخطر في بال أي متأمل لها هو العلاقة بين الحرمة والحرام! علي المقرّي، روائي يمني، كتب الشعر والقصة القصيرة، ثم تحوّل إلى كتابة الرواية، عرف بحديثه عن الممنوع والمحرّم في رواياته، ونقده للتطرف والعنف الذي يمارس ضد المرأة في اليمن،حصلت رواية حرمة على الجائزة الثانية للرواية العربية في باريس بعد ترجمتها للفرنسية.
تحكي الرواية قصة فتاة يمنية تعيش في مجتمع مغلق، تتلقى تعليمًا دينيًا متطرفًا، ومحاطة بشخصيات تتنقل ما بين تطرف ديني إلى تطرف إيديولوجي وسعي نحو تحرر غير مدروس وتفلّت من أي منظومة قيمية، فتنشأ في بيئة مضطربة تؤثر على سلوكها العام وعلى بناءها النفسي والإجتماعي.
يقدّم الكاتب صورة المرأة الضحية، المتمثلة ببطلة الرواية، وصورة المجتمع المتسلط الذكوري، الذي يعطي الرجل السلطة للتحكم بالمرأة ولانتهاك حقوقها. تعتمد الرواية على خرق التابو بشكل متكرر وصادم في كثير من الأحيان، وذلك لا يضفي قيمة للعمل الروائي بذاته، فتجاوز المحظور يحتاج إلى أن يتماهى مع سياق يجعله مسوغًا للمتلقي فيتحول بذلك لعنصر جمالي كونه جزءًا من بناء جمالي متكامل، كما حاول الكاتب أن يحكي الرواية بصوت إمرأة، لكنه صاغها بذهنية رجل، مما حال دون وصول التجربة المحكي عنها للمتلقي بسبب عدم مصداقيتها. في ظل الأوضاع المتردية في اليمن، وحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، صدرت في شباط خطة إستجابة إنسانية خاصة باليمن في جنيف، تهدف لجمع 1.8 مليار دولار وذلك لتوفير القدرة على تقديم المساعدات الماسة والمنقذة للحياة لنحو 13.6 مليون شخص ممن هم في حاجة إليها من خلال أكثر من 100 من الشركاء في المجال الإنساني.
وحتى آذار الماضي،لم يرد سوى 2% فقط من مبلغ التمويل المستهدف، ولا أجد أي سبب يبشر بتحسن التمويل لغرض الإغاثة، التمويل كالعادة يتوفر لشراء السلاح وآلة الحرب. لذلك لا أتابع التقارير الصادرة عن هيئات الإغاثة ومراكز الأبحاث بشكل مستمر، فهي لا تعود علي إلا بمزيد من التفجع والحسرة، عوضًا عن ذلك أكتفي بالإشارة من بعيد، وبالشعر طبعاً.
ينسب لنشوان الحميري في (القصيدة الحميرية) والتي تعتبر من أشهر القصائد اليمنية القديمة قوله: الدهـــرُ أنصحُ واعظٍ يعِظُ الفتى/ ويزيدُ فوقَ نصيحةِ النُّصّــــاحِ.
تجري بنا الدُّنيا على خَطـرٍ كمـا/ تجري عليـهِ سفينةُ الملاّحِ.