الجمعة 29 مارس 2024
هل أبريلُ أقسى الشهور؟
الساعة 10:56 صباحاً
فاطمة ناعوت فاطمة ناعوت

بالأمس، بدأ شهر أبريل (نيسان). ومع بداية هذا الشهر يكذبُ الناسُ أكاذيبَهم البريئةَ، حتى تجري الابتساماتُ فوق صفحات الوجوه، وتخزُ القلوبَ وخزاتُ الفرح. إنه الربيعُ قد لاح في الأفق، ولماذا يبدأُ الربيع بـ”كذبة أبريل”؟ ربما لأن الواقعَ ليس دائمًا مبهجًا، فنلجأ إلى الخيال الذي يرسم لنا ما نشاءُ من أوهام قد تكون أجملَ. لن يحترقَ العالمُ بكذبة صغيرة لن تدوم إلا يومًا أو بعضَ يوم، على كل حال.

حينما يشرعُ مارسُ في لمْلَمةِ أيامَه ولياليه تأهُّبًا للرحيل، نقفُ عند البابِ ننتظرُ بشغفٍ شهرًا ندركُ أنه لا يشبه الشهورَ الأخرى. واختلف المؤرخون حول أصل اسم هذا الشهر. بعضهم ذهب إلى أنه من المفردة اللاتينية: aperire، وتعني: "التفتُّح"؛ بوصفه نهايةَ الشتاء وبداية الربيع حيث تفتّح الزهور وإشراقها. والبعضُ ذهب إلى أنه من الكلمة الإغريقية APHRO ومعناها (الرغوة). وهي المادة الهلامية التي تكوّنت منها إلهة الحبّ: "آفروديت" كما تقول الأسطورة اليونانية القديمة. وعلى كل حال فإن الحبَّ والربيعَ صُنْوان. يتشابهان في البدايات الجميلة المبهجة، وفي النهايات الجافّة الحارقة.

إنه شهرُ "أبريلُ" الذي استهلَّ به ت.س.إليوت قصيدتَه الشهيرة" "الأرضُ الخَراب" قائلا: "أبريلُ أقسى الشهور/ يُنبتُ الليلكَ من الأرضِ المَيْتَة/ ويمزجُ الذاكرةَ بالرغبة/ ويوقظُ الجذورَ الخاملةَ بمطر الربيع".

ولكن لهذا الشهر، بعيدًا عن الإغريق واللاتين والتآريخ والشِّعر، ذكرياتٍ محفورةً في طفولتنا، لا ننساها. يدخلُ أبريلُ علينا ونحن صغارٌ في أعوامنا الأولى، فنبتهج لأن الإجازةَ الصيفية قد لاحتْ حمائمُها في الأفق. ونبتهج لأننا سنتخفَّفُ من المعاطف الثقيلة وفيتامين سي ومن تحذيراتِ الأمهات من تيارات الهواء والمطر وفتْح النوافذ والخروج إلى فناء المدرسة.... لكنَّ أشياءَ مبهجةً أخرى عرفها جيلي، في شهر أبريل، من أجلها كنّا ننتظره من العام للعام. تربيةُ دودِ القزِّ. نخبئُ صناديقَ الأحذية، ونذهبُ بقروشِنا إلى العمِّ الجالس على رأس الشارع أمام مِشَنَّةٍ من خيوطِ الخَيْش، مغطاةٍ بأوراق التوت، وفوق ورقات التوت تزحف عشراتٌ من الديدان البيضاءِ البضّةِ التي تقطعُ بياضَها حلقاتٌ سوداءُ تجعلها أشبهَ بالقطار، مع عيونها السوداء اللامعة، التي مثل مصابيح القطار.

 نشتري الدودَ وخزينًا من أوراق التوت، ثم ندّسه في درج الثلاجة السفلي في كيس نايلون. لكنَّ الأكثر متعةً كان تسلُّقُ الشجرةِ الضخمة في المدرسة واختلاس بعض أوراق التوت، ثم دسِّها في الحقيبة بحنكة اللصّ، وتهريبه إلى البيت في غفلةٍ من حُرّاس المدرسة.

بالنسبةِ لي، اكتسب طقسُ تربية دود القزِّ ملمحًا قُدسيًّا عجائبيًّا. ليس وحسب لشعوري أنني شاهدةٌ على عملية الخلق والتحوّر المدهشة، حين تَبخُّ الدودةُ خيوطَ الحرير حول جسِدها المتكوِّرِ لتغدو شرنقةً بيضاء فاتنة، لا تلبث بعد أسبوع أن تنكسرَ لتخرجَ منها فراشةٌ تطيرُ، فيطير معها عقلي دهشةً وعجبًا وإعجابًا، وحزنًا أيضا على انتهاء شهادتي على معجزة الحياة، ليس لهذا وحسب اكتسبتِ التجربةُ بُعدًا أسطوريًّا مقدّسًا، بل لأن أمي، التي كانت تنهانا، شقيقي وأنا، بحسمٍ قاسٍ عن كل الهوايات التي تُعطّلنا عن الدراسة، حتى القراءة، في غير المناهج الدراسية، أبدًا لم تتبرَّمْ من تربيتنا دودَ القزِّ. لسبب مجهول حِرتُ كثيرًا في تفسيره! فاستسلمتُ أخيرًا إلى أن هذه الهوايةَ تحمل سمةً مقدسة؛ لذلك تباركها أمي رحمها الله. حتى أنها كانت تواسيني حينما تموتُ دودةٌ من دوداتي وتقول لي: "خلاص هي أنهتْ دورةَ حياتها هنا على الأرض، وهتعمل الشرنقة فوق عند ربنا." فأكفُّ عن البكاء.

كثيرًا ما حاولتُ أن أجعلَ أولادي يمارسون تلك التجربةَ الفائقةَ. لكنه جيلٌ، فيما يبدو، لم يعد يجد الدهشةَ في "الحياة"، بل في "افتراض الحياة"، حيث صفحات التواصل الاجتماعي! أما حَيرتي الأبديةُ من مباركة أُمّي لدودة القزِّ فلن تبرحني أبدًا. ذاك أنني، وهي على فراش المرض، سألتها: "ليه بس هواية دودة القز كنتِ مش رافضاها يا ماما؟"، فابتسمتْ في وَهَنٍ ولم ترُدّ أبدًا. وذهب السرُّ معها!


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار