آخر الأخبار


السبت 14 يونيو 2025
"لولا إبراهيم الحمدي لما قامت المعاهد العلمية".
جملة واحدة تكفي لنسف كثير من الروايات الرسمية، والتسويات السياسية، والحكايات التي تم ترصيفها بإتقان كاذب لتطويع الذاكرة الوطنية حسب مزاج المنتصر المؤقت.
بمعنى أدق فإن المعاهد العلمية التي حاربت الزيدية فكريا أكثر مما فعلته كل مدافع الجمهورية، من صعدة إلى عمران مرورا بذمار، تأسست برعاية نظام كان يرأسه رجل لا يحبون الاعتراف به، لا لأنه فاشل، بل لأنه أكثر صدقا من أن يناسب سردياتهم.
واعني أن كل المعاهد العلمية لم تكن مؤامرة سعودية كما يحلو لبعض اليساريين الكسالى أن يرددوا، بل كانت مشروعا وطنيا ضمن محاولة لبناء دولة خارج الفرق والطوائف والشللية والمشيخات.
وكان الحمدي حجر الزاوية.
فما كانت ثورة 26 سبتمبر لتنتصر دون القاهرة، ولا المعاهد العلمية لتنهض دون قرار الحمدي، ولا الزيدية لتتراجع لولا كتاب التوحيد الذي بات يدرس في جبال رازح.
ومع ذلك، ظل الإسلاميون السنة يتحدثون عن "مارق ناصري"، وكأن الإيمان لا يُقبل إلا بختم مكتب الإرشاد، بينما الإسلاميون الشيعة يتحدثون عن "مرتزق علماني"، لأنه لم يعين ابن بدر الدين وزيرا للشؤون الطائفية.
بمعنى أدق فإن الحمدي لم يُعجب أحدا، لأنه ببساطة لم يكن تابعا لأحد.
نعم ..لم يكن ابن الأحمر، ولا عبدا المشيخة القبلية، ولا بوقا في موكب الهاشمية السياسية، ولا كومبارسا في مسرحية العروبة البلاستيكية التي مثلها اليسار وهو يصفق لبابلو نيرودا وينسى مطبعة الكتاب المدرس التى لاحقا حذفوا كتابي ابن اليمن والتربية الوطنية.
والحق يقال إن ترك الحمدي "مؤسسات"، في بلد كان يتنفس "العلاقات".
غامر بأن يبني دولة في بلد لم يعتد إلا الزعيم، والشيخ، والهاشمي، والتاجر.
فتم اغتياله، لا مرة، بل مئة مرة. مرة بالرصاص. ومرة بالصمت. ومرة بالتحريف. ومرة حين رفضت قوى الثورة 2011 مجرد تسمية الجمعة باسمه، لأن ابن الأحمر كان مشغولا بترميم العلاقة مع الحوثي حينها. ولأن الحمدي "صفع" أباه قبل عقود، لا بالكلام، بل بالمشروع الوطني.قال ابن الأحمر حين سيطرت المليشيات الحوثية الكهنوتية ذات الولاية على محافظة صعدة أنها عادت إلى حضن الدولة..وكانت صدمنتنا كشباب الثورة
كما لا غرابة أن يكون يحيى الشامي، القيادي الحوثي الزيدي، من أكثر من أنصف المعاهد العلمية بقوله الصادم: "لولاها لكنا استلمنا الحكم في التسعينات"
لذا أيها السادة، هذا هو الاعتراف الذي يساوي مليون خطاب وطني أجوف. هذا هو منطق التاريخ، لا منطق الفضائيات والحقد والتشوية.
لكن دعونا نعود للواقع: من الذي ورث الحمدي؟ علي عبد الله صالح، الجنرال الذي حول الجمهورية إلى عزبة، وجعل من أبناء الشمال قطيعا في مضمار السباق بين القبيلة والبطانية. حاول البعض إلصاق الحمدي بالناصرية، وتلك نصف تهمة في نظرهم. لكنهم نسوا أن عبدالناصر اصطدم بالإخوان لأنه أراد دولة، لا إمارة. وهذا بالضبط ما فعله الحمدي.ولولا عبد الناصر ما انتصرت ثورة سبتمبر.
أما اليسار؟ فهم الأكثر ضياعا:
كانوا يتغنون بالمساواة من فنادق عدن، ولم يدركوا أن الحمدي في صنعاء كان يبني مدارس في عمران. ظنوه "خصما طبقيا"، وهو كان يُطعم المعلمين من راتب الدولة بدلا من خطاب الثورة.
ولما اغتيل، لم يرفعوا صورة له، بل رفعوا صور من قرأ لهم خبر اغتياله في باريس.!!
نعم..
فالحمدي لم يكن طائفيا، وهذه جريمة. لم يكن متحزبا وهذه خطيئة. لم يكن منافقا، وهذه كارثة في نظام اعتاد أن يرفع الكذبة إلى مرتبة الحاكم.
ثم هل تتذكرون حين قتل الرجل ولم يعلن عن يوم حداد رسمي؟
بل صعد أحمد الغشمي كأنه خرج من حفلة تنكرية. ثم جاء إبن الاحمر، فخاف من "جمعة وفاء للحمدي" أكثر من خوفه من قذيفة في عمران.
لأن الحمدي، وهو في القبر، ظل أكثر شعبية من كل الزعماء الأحياء.
ومع ذلك، لم ننتصر له.
سمحنا بعودة الزيدية بشكلها الإمامي، لأن بعضنا ظن أن الحوثي يمكن أن يكون رفيقا في ساحة التغيير.
وعدنا نرتمي في أحضان الشيخ والهاشمي من جديد.
وعندما سيطر الحوثيون على صعدة، قال ذلك: "عادت إلى حضن الدولة"، ولم يدرك أن الدولة التي بناها الحمدي دُفنت معه، واستُبدلت بدولة عكفية تلفظ "المدنية" كما تلفظ الريح ورقة شجرة.
فيا أيتها الأحزاب، أيها المشايخ، يا أصحاب اللحى الناطقة والكراسي الصامتة، كلكم أذنبتم بحق إبراهيم الحمدي. لأنه لم يكن ناطقا باسم أحد، فتكالبتم عليه كما تتكالب الذئاب على الغزال المنعزل.
لكنه عاش، أكثر منكم. ولولا المعاهد العلمية، ولولا قراره الشجاع، لكانت اليمن اليوم تدار من كهوف المذهب وتوابيت العمائم.
لذلك كفى نفاقا.
صحيح أن الحمدي لم يكن نبيا، لكنه كان رجل دولة حقيقيا. وفي بلد مثل اليمن، تلك أعجوبة تستحق أن يكتب لها التاريخ من جديد.
فاليسار الغبي، كان مشغول دائما بتوزيع التهم المجانية:
يقول إن الحمدي "انحاز إلى الإمامة"، لأنه لم يكن يشرب القهوة مع أدونيس، ولم يكتب مقالاته من مقهى في بيروت.
و لم يرَ هذا اليسار أن الحمدي كان يصنع مدارس حيث كانوا هم يوزعون المنشورات.
يتهمونه بالتخلف، لأنه لم يكن يصرخ "يا جماهير الأمة"، بل كان يوقع قرارات بناء دولة.
أما اليمين، فكان أغبى.
أرادوا من الحمدي أن يعود إلى مكانه الطبيعي: عكفي على باب الشيخ.
لكنه رفض. رفض أن يُسلّم الدولة لمتخلف ، أو أن تكون الجمهورية بطاقة تموينية في ديوان شيخ.
فخافوا منه، ثم قتلوه.
والشاهد أن الحمدي لم يرضَ أن يكون عبدا للطائفة، ولا زينة في عرس القبيلة، ولا بندقية مأجورة في معركة الهاشمية ضد الشعب.
فهمتم؟ تبا لكم... لقد خسرتم الرجل الوحيد الذي أراد أن تكونوا مواطنين، لا أتباعا.
فخنقتموه... لأنكم لم تحتملوا حريّتكم.
اما اليسار الغبي فقد قال إن الحمدي "انحاز إلى الإمامة"، لأنه لم يضع صورة ماركس في كل فصل دراسي، ولم يكتب في خطاباته "يا عمال العالم اتحدوا" وهو يشق طريق الحديدة ـ المحويت.
واما اليمين الأغبى ،فقد ظن أن الحمدي خائن لأنه لم يُعِد المشيخ إلى صدارة المجالس، ولم يمنح العكفة تفويض إدارة الدولة.
نعم:
كلاهما اغبى من بعض لأنهماا لم يفهما ببساطة أن الحمدي كان يريد لليمن أن تكون يمنا… لا فرقة مسلحة، ولا مزرعة أيديولوجية.
فهمتم الآن؟
لا، لم تفهموا.
لذلك تبا لكم، لأنكم تركتم الرجل يُغتال مرتين:
مرة برصاص الخيانة، ومرة بجهلكم الجماعي. لا هو إمامي، ولا اشتراكي، ولا إخواني…
بينما كان يمنيا فقط. وكم هذا مكلف في بلد يكره الاستقلال.
لنخلص إلى أن الحمدي لم يُقتل لأنه طاغية، بل لأنه لم يكن طاغية.
والتاريخ لا يرحم الأغبياء… لكنه أحيانا يتأخر في الانتقام
وكي لا انسى أحدهم قال إن مشكلة إبراهيم الحمدي أنه كان بلا لحية...
تصوروا!
تُرى، لو أطلق لحيته، هل كانوا سيتركونه يحيا؟
أم أنهم كانوا سيغتالون اللحية قبله؟
هل سنشهد هذا السيناريو ؟
حدثت هذه المعركة من قبل
ماشاهدناه ولم تقله الحرب !
من قتل إبراهيم الحمدي؟ ومن قتل الحقيقة؟
إيران و"المثقفون الباكون": بكاء على جثة القاتل