الثلاثاء 10 يونيو 2025
عدن ، مرة أخرى
الساعة 08:43 مساءً
ياسين سعيد نعمان ياسين سعيد نعمان

يذهب الكثيرون ممن كتبوا عن عدن على أنها "ليست مجرد مدينة " ، بل هي قصة كتبتها الجغرافيا بدموع وعرق وحب سكانها الأوائل ممن قهروا صعوبة البدايات ، وصنعوا مدينة للحياة لا تقهر . 
مدينة ، تستحق أن تُكتب بمداد العشق الواعي ، والإحترام المسكون بالحنين . 
ليست مدينةً عادية ؛ إنها لحظة متحركة في الذاكرة ، مدينة تشبه الاناشيد القديمة ... تُغنَّى ولا تُنسى .."عيني لغير جمالكم لا تنظر" .. 
تمر عليها الفصول الكئيبة ، لكنها تعرف كيف تخفي تجاعيد هيبتها تحت لمسة الكرامة .
في ذاكرة أبنائها هي الوطن الذي تلاقحت فيه الانسانية ، واشتبكت المعرفة والثقافات 
بحنين خالد للتعايش والبناء ، وتطويع البحر ، ومغالبة قسوة الطبيعة ، وجلافة درعها الصخري المتجهم عبر القرون في وجه أولئك الذي صمموا على تليين جموده ليغرسوا فيه الحياة .
عدن مدينة تعودت أن تستعيد ثقتها بنفسها كل مرة كانت تواجه فيها موجات التنكر لقيمها التي جعلت منها مهوى الباحثين عن فرص للحياة من كل أصقاع الأرض .. 
وفي هذه العمليات التاريخية ، المفعمة بحب الأرض وعشق الحياة ، ظل أبناؤها أوفياء للجغرافيا التي تبلورت فيها ملامح هذه المدينة بجبالها وبحارها وشواطئها وخلجانها ومصبات الأودية والرمال التي تطوقها كعنوان لتنوع الطبيعة وتكامل مكوناتها الطبوغرافية التي جعلت منها أيقونة لا تقبل الخدش .. أوفياء للهوية التي تشكلت عبر عمليات تاريخية من التواصل والترابط الانساني والعمراني والثقافي والذي جعل منها المدينة القادرة على مقاومة كل المحاولات الانعزالية ل" تخصيص" هويتها بطريقة تتعسف انسانيتها ووطنيتها ، وتجعل منها حاضنة لمفهوم ضيق ، أو تابع لما هو أضيق ، خلافًا لهويتها كمدينة تأسست نموذجًا لحاضرة ثقافية واقتصادية بمحتوى حضاري وانساني لوطن ينهض من أعماق التاريخ ، إسمه اليمن .
كانت عدن هي البحر حين يغني ، والحي الشعبي حين يضحك ، والمقهى العتيق الذي تفوح منه رائحة البن والحكايات ، وهي الميناء الذي يقرر متى تنام المدينة ومتى تصحو .. كانت تمشي بخفة على الماء كحورية تعودت أن تغتسل عند الفجر في أبو الوادي ، وتستريح في خليج الفيل ، وتخلد للراحة في الغدير .. تشرق كل صباح كأنها آية ، وتنام على نغمة الموج وهدير قوارب الصيادين . 
عشقت النور ، وعلّمت صباياها كيف يغزلن أشعة الشمس ليصنعن منها قلائد مطرزة بروح غالبةٍ لقهر الأيام . 
كانت الحياة في هذه المدينة بسيطة ، لكنها تتغير وتتبدل بهدوء لا يخالجه شك بأنها تتطور في عمقها الذي لا يلبث أن يتجلى في صور مذهلة من العمران والمعرفة والفن وتعبيرات الحياة الأخرى. 
لم يبق من عدن الأمس سوى حب أبنائها لها ، لكنه الحب المصحوب بالقلق ، والتمرد ، والألم وهم يرون مدينتهم تتحول من حلم تتزاحم فيه الآمال العريضة بحياة مستقرة إلى كابوس مثقل بالإحباط...
عدن مدينة لا تعترف بالحزن .. لأن الحزن عند مثلها من المدن تَرفٌ لا مكان له فيما تبقَّى من مساحة للحياة فيها .. ستظل عدن "موقف"، لا يسمح للحزن أن يستوطن حواريها وأزقتها وشواطئها وأسواقها ونواديها ومجتمعاتها التي تعودت على التمرد كلما أثقلها اليأس من إصلاح الحال .. عدن مدينة تجيد التمرد على كل من يسعى ، أو يغامر بقهرها !!
تنهض من الرماد كلما حاولت الجراح أن تخمد نبضها ، ففي جوفها ما يكفي لردع خيانة مدنيتها .
سيتوقف التاريخ طويلًا أمام ما تمر به حاضرة اليمن والجزيرة العربية اليوم من قسوة الزمن الذي صنعته السياسة اللئيمة ليُستخلص منها أن هذه المدينة التي سبقت عصرها كمنارة للمدنية إنما تُعاقَب اليوم بأثر رجعي على جرأتها في التطاول على ذلك الجمود الذي عاشته الجزيرة ، وكانت النبضة التي بعثتها من مرقدها . 
عودة عدن إلى حضن مدنيتها ، ومواصلة رسالتها الانسانية والوطنية والمعرفية ، لن يتم سوى عبر طريق واحد ، هو احترام خصوصيتها التاريخية وتسليم مقاليد إدارتها ديمقراطيًا لمن يثق سكانها في قيادته .. لا بد من استنباط نموذج لإدارة المدينة وفقًا لقواعد تجعل منها قوة فاعلة في مواجهة هذه الأزمة الطاحنة ، لا الضحية الأولى لها كما هو حالها اليوم .
 


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار