آخر الأخبار
الخميس 8 مايو 2025
بين بركة الشيخ وسحر القدر
الساعة 08:50 صباحاً
محمد مصطفى العمراني محمد مصطفى العمراني

من القصص التي عشتها ولا أنساها ما حييت أنني بعد أن أنهيت الثانوية العامة في نهاية التسعينيات كان من المقرر أن أؤدي الخدمة العسكرية لمدة عام، ولكن لأن معدلي مرتفع فوق ال 80% فقد تم تحويلي لأداء الخدمة كمدرس.
همس لي أحد الزملاء:
_ هات 5 ألف ريال وأخرج لك إعفاء من الخدمة.
وكان يومها هذا المبلغ كبيرا فرفضت، ولو أعلم بما سيحدث لي لدفعت عشرة ألف ريال مقابل الإعفاء.

أرسلتي الإدارة التعليمية بالعدين إلى مدرسة ريفية بمنطقة نائية وصلتها ذات مساء، سألتهم عن المدرسة فدلوني عليها وحين وصلت إليها أجتاحني الحزن فقد كانت عبارة عن خرابة، عدة غرف طويلة بلا أبواب ولا نوافذ ولا كراسي ولا شيء يمت للتعليم بصلة.!
سألت الأطفال الذين أوصلوني عن بيوت المدرسين فأشاروا إلى جبل مرتفع جدا يحتاج صعوده إلى مروحية هيلوكبتر.!
لقد كنت في غاية التعب والإرهاق بعد سفر طويل، ولذا فقد سألتهم عن بيت الشيخ، ولحسن حظي كان قريبا فذهبت إليه يحيط بي مجموعة من الأطفال الذين رأوا في شيء غريب وصل قريتهم.

اقتحمت مقيل الشيخ وأخبرته أنني المدرس الجديد فهز رأسه ولم يهتم بأمري كثيرا لكنني حين أخبرته باسمي هب واقفا وصافحني من جديد، ثم أجلسني بجواره، وجعل يترحم على والدي الذي كان صديقه، وجعل يروي لي بعض المواقف والقصص التي عاشها معه فشعرت بارتياح فقد وصلت إلى صديق الوالد.

في اليوم الثاني تعرفت على المدرسين من أبناء المنطقة وذهبنا جميعا للغداء والمقيل بمنزل الشيخ الذي حدثهم عن والدي الله يرحمه، وأعاد عليهم القصص التي حدثني بها.
في المقيل قال الشيخ:
_ أمس رأيت في المنام أن لدي غرفة مليئة بالسنابل الخضراء المكتنزة بالحب الناضج وأريد تفسيرها.
وحين صمتوا جميعا قلت:
_ هذا رزق كثير يا شيخ ستناله في المستقبل القريب إن شاء الله.
استبشر الشيخ، ولم تمر الا عدة أيام حتى جاءته ثمار مزارعه في وادي عنة فأيقن الشيخ أن تفسيري للأحلام يأتي كفلق الصبح.

جهز الشيخ أحد غرف الخرابة قصدي المدرسة سكنا لي، ولأني قد أحرجت من الذهاب كل يوم لمنزل الشيخ للأكل والمقيل فقد أستأذنته أن أظل بالسكن حتى أحضر الدروس وأقرأ بهدوء فوافق وكان يرسل لي الطعام والقات وكل ما يلزمني.

في أول ليلة في السكن جاءني أحد الشباب وعرفني بنفسه وطلب مني أن أعبر له رؤياه فقد رأى أنه قد أرتدى حلة خضراء جديدة، سألته:
_ هل أنت متزوج ؟
_ لا
_ ستتزوج إن شاء الله قريبا فلا تفسير للباس للعازب الا الزواج والله تعالى يقول: ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).
ولشدة فرحته قبلني في رأسي قائلا:
_ والله إنك أفرحتني فرحة العمر.
ثم رمى لي برزمة نقود ومضى فلحقته أناديه:
_ خذ فلوسك لو سمحت.
لكنه أقسم أن لا يأخذها قائلا:
_ اعتبرها تبرع للمدرسة.
ولم تمض الا أسابيع حتى خطب الشاب وتزوج.
وأشتهرت في المنطقة، وتوافد علي الناس وكل من له حلم رآه فسرته له.

وتحول سكني وبقية فصول المدرس إلى مقيل يغص بالعشرات، وحينها أدركت أنني سأخسر الشيخ إن لم يتحول حبه لي إلى عداوة فعدت إلى مقيل الشيخ، ومن معه حلم يكتبه بورقه وأرد عليه كتابة.

صحوت في ذلك الصباح الباكر على طرقات عنيفة على بابي فنهضت مذعورا وفتحت وأنا أفرك عيوني لأجد جدتي أمامي، كانت عجوزا تشبهها تماما تقف متقطعة الأنفاس وتسألني:
_ أين الولي ؟
قلت مازحا:
_ الولي مش موجود.
_ أين الأستاذ؟
عدت إلى الداخل وأخرجت لها الفراش لتجلس عليه.
بعد أن أرتاحت وشربت الماء والقهوة قالت:
_ بنتي ستلد خلال أيام وأريدك أن تختار للمولود اسما من الأسماء المباركة.
وأضافت:
_ اسم يكون فيه السعد والرزق الكثير.
دهشت من طلبها وقلت:
_ يا والدة أنا مدرس ولست من الأولياء والصالحين المباركين.
رفعت عصاها وأشارت إلى جبل بعيد:
_ جئت إليك من قرية الغربي، مشيت ساعتين وأنا منذ عشر سنوات ما خرجت من البيت.
وفوجئت بها تهجم علي وتقبل يداي ثم تهوي لتقبل أقدامي فأمسكت بها قائلا:
_ اذا كان ولد فهو عبد الغني، وإذا كانت أنثى فهي سمية.
_ سمية لا، بنت ابني سمية وخبيثة مثل أمها.
_ أسماء وعلى بركة الله.
ناولتني علبة سمن وأخرى عسل فأعدتهم إليها فحلفت الأيمان المغلظة أنهم لي حتى تحل البركة على النحل والبقر.

ومضت أموري وأنا في سعادة ونعيم كولي مبجل حتى جاءني الشيخ ذات ليلة:
_ بنتي سنزوجها الخميس القادم..
قاطعته:
_ مبارك عليكم العرس..
_ متى نخرجها ؟
_ كيف ؟
_ متى نخرجها يوم عرسها ؟
_ متى ما أردتم.
_ ما هو الوقت المبارك ؟ ساعة الرحمن، الساعة المباركة؟
_ بعد العشاء بإذن الله. واقرأوا المعوذات والفاتحة وأدعوا لها بالعافية قصدي بالبركة.
تهلل وجه الشيخ ومضى.
لم يمض الا أسابيع حتى جاءني الشيخ وهو يكاد يتميز من الغيظ، ووجهه أسود كالفحمة قائلا:
_ اللي كنت خايف منه حصل.
أجتاحني الخوف فسألته:
_ إيش اللي حصل كفى الله الشر ؟
_ العرسان تصايحوا.
كدت أنفجر ضاحكا لكنني كتمت ضحكتي قائلا:
_ عادي الخلافات تحصل بين الأزواج...
قاطعني:
_ يعلم الله من عمل لهم عكوس.
_ كيف ؟
_ هناك من عمل لهم عمل يفرق بينهم.
_ أنا رأيي يا شيخ تجلس معهم جلسة ودية وتحل الخلافات وانتهت المشكلة.
_ لا لا الحل بيدك أنت يا أستاذ.
سرحت بخيالي إلى بعيد وتخيلت أن العريس قد طلق زوجته ثلاث مرات وعلي أن أتزوجها كمحلل، لا تفسير لكلامه الا هكذا.
لم تطل حيرتي فقد قال الشيخ:
_ تعمل لهم كتاب مضاد للعكوس، يجمع القلوب على المحبة ولك ما طلبت.
_ يا شيخ أنت تدرك أنني لست من المشعوذين ولا أعمل هذه الأشياء.
_ علشاني أنا وسرك في بير، البنت اسمها أنيسة وأمها سعيدة والولد حسين وأمه سلامة.
ثم تركني ومضى.
وبقيت تلك الليلة أضرب أخماسا في أسداس والحيرة تكاد تقتلني.
وفي الصباح نسيت الأمر وانشغلنا بالتدريس.
بعد العشاء عاد إلي الشيخ فأسقط في يدي، ولم أدر ماذا أقول له ؟!
حاولت أوضح له وأفهمه وأنصحه لكنه صمم ورأسه وألف سيف الا أعمل لهم كتاب المحبة والا فإنني أعاديه ولا أرعى له الجميل والمعروف.
وفكرت كثيرا وكدت أقنع نفسي أنني مضطر، لكنني قبيل الفجر حزمت أمتعتي وغادرت إلى العدين طالبا نقلي إلى مدرسة أخرى بعيدة وأنا أسأل الله أن لا أجد فيها من يعرفني أو يعرف والدي وله بنت ستتزوج واسمها أنيسة.!

 


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار