الاربعاء 9 يوليو 2025
ابتهالات
الساعة 08:56 صباحاً
فتحي أبو النصر فتحي أبو النصر

يا مَن لا يُرجى سواك، ولا يُخشى إلا ضياع وجهك في الزحام، يا من وهبتنا الضوء قبل العيون، والمعنى قبل اللفظ، والرحمة قبل الخطايا... أحمدك حمد التائه حين يهتدي، والواقف على حافة الغرق حين تُلقى له يد النور.

أشكرك، يا من إذا ذكرت انكسر القلب فرحا، وإذا نسيت تاهت الجهات الأربعة. إليك أتوسل، وبك أستعيذ، ومنك أستمد قُدرتي على الوقوف في زمن لم يعد يعرف للوقوف معنى.

اللهم إنني توكلت عليك، لا على يقيني، واعتصمت بك لا لثقتي، بل لجهلي بما سواك. فخذ بيدي كما تأخذ الريح عطر الزهر، لا ليذبل، بل ليصل إلى من لم يعرفه بعد.

ويا رحمن، اللهم إنهم تعمنّوا لي أمنية، إن كانت خيرا، فاجعلها نهر خيرٍ لا ينقطع، وإن كانت شرا، فردها إليهم في صحوة ضمير، لا في نقمة. فإنك تمهل ولا تُهمِل، وتُمهد الطرق لمن أحببت، حتى لو مشى على رماد..

هناك، في الجنوب المضيء من القلب، تُفَتِّح اليمن جناحيها. اليمن ليست أرضا، بل لغة من لغات الله، يقرأها من عرف الصلاة قبل أن يتعلم الكلمات.

هناك، في صنعاء التي تتنفس قدسا في الأزقة، وتبخر ذاكرة الأنبياء في حجارة البيوت، سمعت المؤذن يؤذن من قلبه، لا من مئذنته. وكان الأذان مثل برق أضاء داخلي، فجعلني أنسى الأرض ومن فيها.

وفي صنعاء، رأيت الفجر يتوضأ من يد الليل، ينهض كشيخ عرف الله واعتزل العالم، وفي عينيه دمعة ونجمة.

في عدن، تغسل الأمواج خطايا العابرين، وتعيد للأرواح بريقها القديم. هناك، البحر يشبه الدعاء: ممتدٌّ، مجهول، لكنه مألوف في العمق.

وفي حضرموت، إذ تسير القلوب قبل الأقدام، رأيت الأولياء يمشون على الرمل وكأنهم لا ينتمون للثقل، يتركون خلفهم عطرا لا تلتقطه إلا الأرواح النقية. وهناك، بكيت من غير دموع، وذبت من غير نار.

وفي حضرموت أيضا، كان الوقت ينام على صدور العارفين، وتتحرك الخطى بحذرٍ كأنها تخشى أن توقظ سرا قديما. سمعت الريح تذكر اسم الله، لا بالصوت، بل بالسكينة.

وفي تعز، المدينة التي تتكئ على الجبل كمن يسند قلبه على كتف السماء، رأيت النساء يحملن الجرة والمسبحة معا. يدخلن المساجد بخفة الغيم، ويخرجن وكأن السماء نطقت على ألسنتهن.

وفي تعز، لا تُقاس المسافة بالخطى، بل بعدد المرات التي نادى فيها القلب: "يا الله". ولا تُعد الأزمنة بالساعات، بل بالهزات الروحيةالتي يُحدثها ذِكرك.

وهنالك، الأمهات يطبخن بالدعاء، ويعلمن أولادهن كيف يسيرون على الأرض دون أن ينسوا السماء.

أما في مأرب، كانت البيوت بلا أبواب، لأن الناس هناك يفتحون صدورهم أولا، ثم نوافذهم.

على إن ابتهالاتي ليست كلمات، بل هي شهقات تُكتب . وصدقني كل سطر فيها صلاة، وكل فاصلة توبة، وكل نقطة دمعة نزلت من روح الفجر التي لم تحتمل الوصال أو الفقد.

فاللهم اجعلني من الذين لا يملون الوقوف على بابك، ولو تأخر الفتح. ومن الذين إن تمنى الناس لهم الخير أو الشر، لم يُغيرهم شيء، لأنهم علموا أن المقادير تُكتب بحبر الرحمة، لا بالحقد.

واجعل قلبي، يا الله، مثل اليمن: مكسورا لكن لا ينكسر، حزينا لكن يغني، مهموما لكنه لا ينسى الطريق إليك.

وسلام على من أحبنا فيك، وعلى من آذانا دون أن يعرفك... فإنك وحدك العارف بما خلف النوايا.

واللهم، لك وحدك هذا البكاء الصامت، وهذه الشجن الذي لا يبحث عن قراء، بل عن وجهك الكريم.

فيا نور القلب، يا من لا يحاط، يا من تنفخ في الأرواح أسرارها، وتصب في الوجدان كأس المعرفة من يد الغيب... ويا من يُذكَر فترتعد جوانح القلب كأنها واديٍ ضربته صاعقة الشوق.

واللهم، إني أحمدك حمد من سجدت له الأرواح قبل الأجساد، وشكرك شكر من تجلى له الجمال في تجليك. إليك أبسط قلبي سجادة من رجاء، وأسألك بعين دامعة، وأستعيذك من غفلة لا تليق بمن عرف الطريق.

فيا رب، توكلت عليك في زمن تخلى فيه الزمن عن نفسه، واعتصمت بك من ضعفي ومن قوتي، فأنت القوة في الضعف، واللطف في الشدة.

فاجعلني مطية لرضاك، وامنح من تمنى لي خيرا أضعافا مضاعفة، حتى يضيق قلبه بالفرح ولا يتسع له صدر. وإن تمنى شرا، فاجعله حبيس سوء ظنه، يرى النور ولا يبلغه، ويذوق من مر ما نوى.

انك تعرف أنني من تلك أرض اليمن، فالجبل يلبس الغيم،و الريح تمر على أعشاش العارفين فتوقظ فيهم ذكر الله.

لذلك سأخبرك بسر لا يُكتب إلا على أوراق الأرواح: اليمن ليست مكانا. اليمن حالة من الذِكر. من رآها بعين الجغرافيا، فقد رأى حجرا وطينا، ومن رآها بعين القلب، فقد شهد مقاما من مقامات القُرب.

لذلك أراني هناك، ألبس عباءة من خيطان الدعاء، أكتب على الرمال أدعية لا يقرأها إلا من سكنه الحنين إلى ما قبل الدنيا. وأدعو: اللهم اجعلنا من أهل الفجر، لا الذين يستيقظون له، بل الذين لا ينامون عنه.

والآن..والريح تمر، وتهمس لي: هذا وطن لا يُغادر، لأنك كلما خرجت منه، خرج إليك.

فيا الله، أجعل قلبي بلدا مثل اليمن: حزينا وجميلا، مثقلا بالعطر والمحن، مأهولا بالأولياء واليتامى. واملأه بخوفك حتى يخاف من نفسه، وبحبك حتى ينسى اسمه.

ويا الله، إن اليمن بئر في القلب، كلما أردت أن أرتوي، ألقيت فيه دلوك، فارتفع النور بدل الماء.

وسلامٌ على من مروا من هنا، أرادوا لي خيرا أو شرا، فإنك كفيلي، وأنت القائم على النوايا.


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار