الجمعة 30 مايو 2025
رسالة إلى الرفاق من قلب يُريد أن يُداس تحت المطر في أديس أبابا!
الساعة 12:32 مساءً
فتحي أبو النصر فتحي أبو النصر

 


أيها الرفاق:

سلامٌ بارد كأكتاف أصدقاء الطفولة..
و من مكان في القلب لم تطله بعد خناجر الصداقة ولا وعود الأحزاب، كما من مطر خفيف في أديس أبابا يُذيب ذكريات ساخنة تسكن تحت جلدي.
 كنت أتخيل أن هذا المطر سينظفني، لكنه فقط كشف عن الصدأ.
وها هو القات الأثيوبي العظيم أنتهي منه وكنت نجوت.. ثم خرجتُ من بين أنيابه كفكرة نائمة في حلم فيل يطير.
ثم رأيتُ زرافة تعزف على العود، والسماء تُمطر أحذية أطفال، وكان ظلي يرقص وحده فوق حافة فنجان قهوة باردة.
هل اقول نجوتُ؟ ربما.
 أو أنني فقط استيقظتُ في جسد آخر.
ولكن لا لأنني أحبكم، بل لأنني ما زلتُ أتوهم أن أحدكم لم يخن بعد. قررت أن أكون صادقا معكم 
لقد قرر "فتحي أبو النصر" أن يدوس على قلبه، لا كرما منه، بل يأسا. 
الرجل الذي تعب من تصديق الجميع، حتى نفسه. قلبه صار "غرفة عمليات" تستقبل طعنات مستمرة: من الشعراء المتسلقين على أغصان القصيدة، من الأحزاب التي تبيع الشعارات بالكيلو، ومن أولئك الأمناء الذين يتحولون إلى مليونيرات دون أن يتحرك جفنُ ضمير.

والحق يقال أيها الرفاق...
إن ما نعيشه ليس وطنا، بل مؤامرة معمرة بديكور الوطن. 
كل زاوية تحمل جهاز تنصت، كل زعيم سياسي يحمل زجاجة عطر تُخفي رائحة الخيانة، وكل قصيدة تنتهي في بريد وزارة الثقافة كمشروع جلطة.
 أنتم تشمون رائحة الوطن في خطب القادة، طبعا 
بينما يشمها فتحي أبو النصر في بقعة دم على رصيف المدينة.
و
أخبركم بشيء ايضا؟
الكتابة لم تعد إنقاذا. إنها طريقة مؤلمة لتكرار السقوط.
القصيدة؟ أصبحت آلة كشف الكذب.
الشاعر؟ صار كائنا أليفا، يُلقى إليه تمويل ليكتب عن “الوطن المشرق” بينما شمس الوطن محجوبة بمسدس.

ويا أيها الرفاق في تيه الصداقة والسياسة:
من منكم لم يتورط في خيانة صغيرة؟ من منكم لم يضحك في وجه أحد بينما كان يشحذ سكينه خلف ظهره؟ 
صدقوني نحن نعيش في عصر تستطيع أن تقتل فيه صديقك بكوب قهوة.

لذلك فتحي أبو النصر قرر أن يدوس على قلبه لأنه لم يتعلم الدرس، لم يفهم أن الخيانة لا تأتي من بعيد، بل من جهة القلب. كما قرر أن يسحقه لا لأنه لم يعد يحتمل الحب، بل لأنه صار يعرف أن الحب سلعة، والقصيدة إعلان، والرفاق تجار نوايا.

وهنا في أديس أبابا، تحت المطر، أتذكر النسيان كله.
يا له من تناقض أن تدمع للداخل، بينما العالم يضحك في الخارج.
كم أنا وحيد،
 وكم أنتم كثيرون، ولكن بلا ظل.

لذلك أريد أن أخبركم أن السياسة لم تكن يوما فكرة، بل كانت سكينا. 
أما الوطن؟
الوطن كان معناه"أين تسقط الرصاصة"
وليس "أين ترفع العلم".

ويا أيها الرفاق الانقياء:
نحن نحمل قلوبا لا تجيد الحذر، لهذا نخون أنفسنا يوميا باسم الوفاء.
نصفق لمن يجلدنا، ونحمي من ينهبنا، ونكتب قصائد تمجيد في من خذلنا.

لكن هل تعرفون متى ينتهي كل شيء؟
حين تقرر ألا تصدق أحدا، ولا حتى نفسك.
حين تصبح الصداقة مجرد مناورة مؤقتة، والحب حيلة بيولوجية، والوطن إعلانا على جدار مهترئ.

في هذه الرسالة، لا أبحث عن عزاء، بل عن اعتراف.
أنتم لم تكونوا الرفاق، بل التفاصيل الزائدة في مأساة رجل صادق أكثر من اللازم.

فتحي لم يطلب منكم أن تنقذوه، بل أن تصمتوا فقط. 
أن تتوقفوا عن إرسال العبارات الفارغة من نوع "نحن معك"، وأن تكفوا عن بيع العزاءات مسبقة الدفع.

نحن لا نحتاج إلى مزيد من الشعراء، بل إلى من يصمتون بكرامة.
لا نحتاج إلى الأحزاب، بل إلى اعتراف رسمي أن السياسة طاعون.
ولا نحتاج إلى قلوب، بل إلى أجهزة تصفية تنقي العاطفة من الغباء.

ويا أيها الرفاق:

لم يعد في القلب متسع حتى لليأس. أصبح قلبي نكتة سيئة أكررها على نفسي كل صباح. 
أصبح كوكبا صغيرا يدور في مدار من الخيبة، يدق رغم أنه يعلم أنه مهزوم.

في النهاية:
أنا لست فتحي أبو النصر، لكنني أكتبه لأني أعرفه،
وأعرف كيف تُقتل الأحلام في صمت، وكيف تتحول القصيدة إلى دليل إدانة.
 و
هذه رسالتي إليكم. 
من مطر أديس أبابا، ومن جهة لم تدهسه بعد، لكنه في الانتظار.

مع الخيبة كلها..
أنا فتحي أبو النصر 
رجلٌ لم يخن، لكنه لم ينجُ..
و
أيها الرفاق:
 الرفاق الذين أصبحوا كجوارب مفردة ضائعة في درج زمني بارد 
سلامٌ عليكم من داخل حذاء حبشي يتحدث الصينية، ومن زاوية منسية في دماغ ثلاجة قديمة تحفظ خريطة لوجه القمر حين كان يبيع الحليب.
أيها الرفاق: كنتُ نملة في اجتماع مجلس الأمن، وألقيتُ خطابا عن الغدر بلغة العناكب، ثم صفق لي سفير الظل. 
لكني رأيتكم هناك، في الصور التي لم تُلتقط، تلبسون أقنعتكم المصنوعة من نوايا مبسترة.
ولكن هل تذكرون حين خرجنا لنغسل قلوبنا؟
 لم نجد ماء، فقط غازا مسيلا للدموع بطعم البن.
 ومع ذلك ضحكنا، لأن أحدكم التهم دفتر ملاحظاته على الهواء مباشرة.

لكن دعوني احدثكم  أكثر:
البارحة، استضافني فنجان قهوة للحديث عن وطني، فقلت له: 
وطني كلبٌ أعرج يلهث خلف سيارة إسعاف، وقد أدمن الركض نحو الاتجاه الخطأ. ضحك الفنجان حتى تبخر.

ولكنني نورت أن احدثكم عن الحب ..
الحب؟ نعم رأيته يبيع نفسه عند إشارة مرور، يحمل لافتة تقول: "أقبل مقابل الذكريات". مررتُ من هناك، ولم أتوقف.
و
أيها الرفاق:
 كل ما أريده الآن هو بيت صغير داخل دمعة، فيه نافذة على اللامبالاة، وسقف من الصمت المقطر. بيت لا تصل إليه نشرات الأخبار، ولا الأغاني الوطنية ذات النهايات السعيدة.

صدقوني، لم نعد نُداس فقط. لقد أصبحنا دواسات، وأرواحنا سجادة صلاة تحت أقدام كاذبة.

فمن منكم ما زال يشم الحقيقة تحت إبطي حبيبته؟بل من منكم لم يتحول بعد إلى بيان رسمي؟

في النهاية، أقولها لكم من فوق سحابة تئن: أنا لم أعد فتحي، ولا حتى اسمي، أنا ضميرٌ منفي في حقيبة شاعر.
و
لا تسألوني عن المصير، فقط افعلوا شيئا واحدا:

أغلقوا فم الوطن قليلا، فهو يبتلعنا دون أن يمضغ.

مع الغثيان كله، طبعا ها أنا 
أنا: اللا أحد
والرفاق؟
أنتم المرايا المكسورة التي أعدتُ ترتيبها لأرى وجهي يتشظى.
ولذلك لن أودعكم 
فقط سأكتفي بالتلويح اليكم.
 


إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
آخر الأخبار